جئت مع ندف الثلج و خرجت من مساماتي عنوة .
من هيجك؟
أتيتني غضا كأناشيد الطفولة ، خفاقا كسرب سنونو ، خجولا كأكاليل الميموزا ، و سقطت على أوراقي نديا مثل تباشير الصباح..
قل لي : هل ما زلت تحبني؟
ستتجاهل سؤالي .. أعرف أنك مولع بي ، ناقم جدا على أسبابي و حنق على غيابي.
لكنهم بيننا !
يتسربون من علق الطين، يتغلغلون في صوتنا ، في ماضينا ، في ندبة جبينك ، في كحل عيني. ينهشون أحلامنا و أنت تطوقها بذراعيك و تهزها علها تنبعث و تشب من جديد.
لا أخشى الأحلام.... بل أكرهها . و لو قدر لي أن أستلها من أضلعك، لفعلت ذلك و استرحت!
سامحني على فظاظتي، فقد أعيتني زمنا...
و أريد الآن برزخا يفصلني عنها ، ترابا آمنا كي أطأ أرضك ، فضاء لا يجمعني بها.
أحتاج أن أتخلص من هوسي بك .
لا تحاسبني على طيشي ، فالطيش هو ما دفع بي إليك.
حين التقينا قبل غيابي الأخير، قلت لي إن البصيص الذي في عيني خبا ، و أجبتك بعد صمت طويل بأني أحبك و أنت حليق الذقن أكثر.
طلبت مني أن نستحث ذاكرتنا معا و أن نعيد خطواتنا في اللقاء الأول. و تساءلت إن كنت قد تعمدت أن تختبر ذاكرتنا أم تمتحن قلبينا.
كان الجسر يضج بالحياة و الأنس، لكن النهر الذي ألفناه بدا لي كمن يلفظ أنفاسه الأخيرة.
رأيتك مخبتا و أنت تناجي إله السماء ، و اكتفيت بأن ألجلج في قلبي : آمين.
جئتني..... ناعما كالدانتيلا، وهاجا كسارق النار .
جلبت معك ضجيج الماضي، وظلال قصتنا و بعض صرير خافت..
هل جربت أن تحلم بنهاية آمنة مائة مرة ، و أن تراهن على نجاحها بمعجزة في كل مرة ، و أن تموت كل يوم ألف مرة. خمدت رؤوس كثيرة منذ تباعدنا و خرجنا من دائرة الضوء . انتقلت أوجاعهم و وساوسهم إلى أطرافي ، فأوصالي فأحشائي، أصبحت لا أهنأ.
" أي حب.. حب يشبه حملا كاذبا أو جنينا ساكنا."
هكذا صرخت أمي في وجهي و هي تجذب ساعدي ، كادت غشية الموت أن تدركها و هي تشد قبضتها و تردد ، " ماذا ينقصك؟ "
حللت جارتنا الحميمة الأمر كله على أنه ميلودراما ستنتهي باكتشافي أني أعطف عليك و بإيقانك أني لست امتدادك للحاضر.
اكتفت أختك بالتلميح إلى مدى اختلافك قبلها و بعدها ، و تركتني فريسة للاحتمالات الصعبة.. كنت أسوأ صرت أفضل ، كنت أفضل صرت أسوأ، كنت سيئا صرت أسوأ..
قبيلة النساء لفظتك خارج مرابعها ، و المعجبون القدامى ، الحاقدون ، العاتبون خرجوا من تحت السرير ، من بين الغلائل ، و ظلت أشباحهم تسري في خزانتي و دولابي و تعبث بأغراضي.
حاولت أن أكسر حاجز الصمت بالكلام و أبدد الكلام بالصمت. صار الجدار يجثو فوق صدري و يخسفه كما يفعل السيل في حواشي الوادي . التنين الصغير في داخلي انكمش على نفسه. أضحت ناره فحيحا، حشرجة ، دخانا أسود.
أتيت عاليا ، شاهقا كموجة، و مسحت بحنو على رمل الشاطئ.
قالوا لي إنك ما زلت تحب الزرع و الأزهار و تضع الورود على باب بيتي . تحادث أختي حين تنفرج الأقدار عن صدفة أتمناها سعيدة.
قالوا إنك ابتعت مشتلا صغيرا يحمل اسمي جهة الجسر .
قالوا إنك ما زلت رقيقا و جميلا و تنتظر زنابق الربيع في موسمها.
قالوا إنك ما زلت حليق الذقن .. و تحبني أكثر.
حزنت كثيرا و طويت الصفحة جانبا و انزويت كما تعزل الدمى القديمة.
ذابت حروبي الصغيرة على أكمة العشب الأصفر و استقرت كالنقع في الجرف الغائر.
و سلمت أخيرا بأن الثلج الذي يفر من أبواب السماء يغير معالم الأشياء و لا يمحوها ، و رضيت ، و اقتنعت.
أجل..
خرجت من مساماتي عنوة .
كان علي أن أختار أن أحبك كما أنت ، لا كما يراك الآخرون.
و أن أناجي إله الكون و أنا ممتلئة بك، و أهتف بعلو أنفاسي :
آمين.
لأنتِ حبيبتي، أغلى الحبيباتِ،
وأحلى ما عرفت من الصباباتِ،
وأشجى ما شجاني من عذابات!
وأنت العون والسند،
وأنت الدار والبلد،
وأنت البدءُ ، انت الختمُ،
أنت العلم أنت الحلمُ!
elgazar