الصيام و الدعاء
إن المتأمل في القرآن الكريم يجد أن الله عز وجلّ كثيرًا ما قرن بين عبادتين قال تعالى: " وأقيمُوا الصلاةَ وآتوا الزكاةَ.."، وقرن بين حقين " وقضَى ربُّكَ ألا تَعبُدُوا إلاّ إياهُ وبالوالدينِ إحْسَانًا " ، قرن أعلى الحقوق وأعظمها وهو حق الله تعالى بحق الوالدين تأكيدًا لعظيم حقهما، وبين فريضة وفضيلة " واسْتَعِينُوا بالصبرِ والصلاةِ.." ، وقرن الله بين نصره والتمكين للمسلمين :" إنْ تنصُروا اللهَ ينصرْكُم ويثبتْ أقْدَامَكُم "، وقرن بين الشكر والزيادة: " لئنْ شكرتُمْ لأَزيدنَّكُم "
وقرن الله بين الصوم والدعاء حتى تداخلت آية الدعاء بآيات الصوم ؛ حتى يتجلى أمام القارئ لكتاب الله أن آية الدعاء استكمال لسير الآيات لقول الله تعالى : " يا أيُّها الذينَ آمنوا كُتبَ عليكم الصيامُ كما كُتبَ على الذينَ من قبلكم لعلكم تتقونَ.." ثم بعدها قال الله تعالى : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.." ، ثم قال الله تعالى : " وإذا سألكَ عبادِي عني فإنِّي قريبٌ أجيبُ دعوةَ الداعِ إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يَرشُدونَ"، ثم جاءت الآيات تذكر الصوم مرة أخرى حيث قال الله تعالى : " أُحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفث.."
والمتأمل لهذه الآيات الكريمة يجد الصلة وثيقة بينها وبين الدعاء، فالصلة وثيقة إذن بين الصيام والدعاء؛ حيث يقف السياق قبل أن يمضي في بيان أحكام تفصيلية خاصة بالصيام؛ ليحدثنا عن الدعاء تأكيدًا لهذه الصلة الوثيقة. فليهنأ الصائم بدعائه المستجاب؛ فالثمرة المرجوة من هذا الإيمان وتلك الطاعة هي القرب من الله الذي يتبعه إجابة دعاء المؤمنين وهدايتهم إلى الرشاد والصلاح، فالله غني عن العالمين.
في الآيات الكريمة لفتة إلهية كريمة إلى نفس المؤمن الطائع، تعوضه ما تحمل من مشقة الصوم، وتعجل له جزاء ما استجاب لله بألفاظ تزيده إيمانًا واقترابًا من المولى عز وجل: " عبادي " أضاف المولى سبحانه العباد إليه، " فإني قريب " رد مباشر، أنا قريب معكم أسمع وأرى، " أجيب دعوة الداع إذا دعان " عجّل سبحانه بالإجابة ولم يقل أسمع الدعاء. آية تسكب في قلب المؤمن كل الرضى والاطمئنان، وتزيده ثقة ويقينًا فيما عند الله، ولِمَ لا! وهو يشعر أنه في ظل الملاذ الآمن.
فعلى الصائم حين يدرك أنه قريب من الله أن يكثر من الدعاء؛ يتوجه إلى ربه الكريم سائلاً، راجيًا، طامعًا في إجابة كريمة وعده الله تعالى بها، فقط عليه ألا يعجل. ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل " قيل يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال: " يقول قد دعوت، وقد دعوت، فلم أر يستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء ".
الاستعجال في الدعاء
فالاستعجال في طلب الإجابة يحرم العبد خير الدعاء حين يتسرب اليأس إلى نفسه فيدع الدعاء وهذا لا شك من مكائد إبليس، فالمؤمن لا يقنط من رحمة الله أبدًا؛ تمتلئ نفسه يقينًا أن الله يكرمه بالخير لا محالة، لكن زمان الخير ومكانه لا يعلمه ولا يقدره إلا الله وحده. فقط علينا أن ننعم بالقرب من الله فندعو بقلب حاضر خاشع مقبل على الله، ونقرن دعاءنا بالعمل الصالح والبعد عن المعاصي، ونتحرى أوقات الإجابة المعروفة، وإن كان الله تعالى قد قرن بين الصوم والدعاء لحكمة رائعة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قرن بين الصوم والدعاء لنفس الغاية وبشكل لافت للنظر ومثير للتأمل.
لذا؛ كان صلى الله عليه وسلم دائم الحرص على الدعاء عند رؤية الهلال، عن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى الهلال قال : " اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان والسلامة والإسلام. ربي وربك الله هلال رشد وخير " رواه الترمذي.
وكذلك الدعاء في شهر رمضان، عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يومًا وقد حضر رمضان: " أتاكم رمضان، شهر بركة، يغشاكم الله فيه؛ فينزل الرحمة ويحط الخطايا ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه، ويباهي بكم ملائكته؛ فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمه الله عز وجلَّ " رواه الطبراني
وكذلك الدعاء في ليلة القدر، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله : أرأيت أن علمت أي ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: " قولي: اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنّي " رواه الترمذي.
والصائم أقرب الدعاة استجابة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتى يفطر، ودعوة المظلوم.." وقد كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأفقههم في دينه؛ لهذا كانوا يعرفون للدعاء قدره، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه، وكان يقول لأصحابه : " لستم تنصرون بكثرة، وإنما تنصرون من السماء ".
وإن كان الدعاء نعمة عامة ذات قيمة عالية، فهو في رمضان نعمة خاصة لا غنى لنا عنها؛ ليست من أجل ذات الدعاء، ولكن لأنه لا غنى لنا عن الله. وإذا أردت أن تعرف قيمة الدعاء بحق فاعرف قيمة من تدعو، وإذا عرفت قيمة من تدعو، فمن المؤكد أنك ستعرف قيمة الدعاء، وليس المهم أن ندعو وندعو فقط، بل القيمة الحقيقية أن نكون أهلاً لهذا الدعاء.